فصل: مسألة قال من يحفر لي بئرا طولها وعرضها كذا فله كذا فحفر رجل نصفها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة استؤجر على خادم يبلغه فمات في بعض الطريق أو أبق:

قال: وقول مالك فيمن استؤجر على خادم يبلغه، فمات في بعض الطريق أو أبق، فإن أبق حوسب، وإن مات فله الأجرة كلها، وقال ابن القاسم فيه الموت والإباق عندي واحد، نرى أن تكون له الأجرة كلها. قال ابن وهب: له من الأجرة إلى حيث بلغ فقط، وقاله أصبغ، إلا أن للمستأجر أن ير يستعمله في مثل ذلك حتى يبلغ ويتم، أو يواجره في مثله حتى يتمه.
قال محمد بن رشد: قول مالك: إن له الأجرة كلها في الموت، وقول ابن القاسم: إن له الأجرة كلها في الموت والإباق، معناه: ويكون للمستأجر أن يستعمله في مثل ذلك على ما قاله أصبغ. فالصواب في قوله أن يكون متصلا بقول ابن القاسم على سبيل التفسير له، لا بقول ابن وهب.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن الإجارة لا تنفسخ لا في الموت ولا في الإباق، ويستعمله المستأجر في مثل ما بقي، وتكون له أجرته كاملة، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنها تنفسخ فيهما جميعا، ويكون له من الأجرة إلى حيث ما بلغ فقط، وهو قول ابن وهب هاهنا، وقول ابن القاسم وأصبغ في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ، من كتاب الرواحل والدواب. والثالث: الفرق بين الموت والإباق، وهو قول مالك. ويتخرج في المسألة قول رابع: أنها تنفسخ في الإباق، ولا يكون له فيما مضى من الطريق شيء، ولا تنفسخ في الموت، وذلك على ما في المدونة لمالك في تلف الشيء المستأجر على حمله من قبل ما عليه استحمل؛ لأن الإباق للأجير فيه سبب بترك التوثق والتعاهد. وقد مضى القول على هذا في رسم طلق من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

.مسألة قال من يحفر لي بئرا طولها وعرضها كذا فله كذا فحفر رجل نصفها:

قال أصبغ: سئل ابن القاسم عمن قال: من يحفر لي بئرا طولها كذا وكذا، وعرضها كذا وكذا فله كذا وكذا، فحفر رجل نصف ذلك، ثم يعتل. قال: لا أرى له حقا إلا أن ينتفع بها صاحبها، فإن انتفع بها أخذ قدر ما عمل مما انتفع به. قيل له: فلو قال: من جاءني بخشبة من موضع كذا وكذا فله كذا، فحملها رجل إلى نصف الطريق؟ قال: هو مثله لا أرى له شيئا إلا أن يحملها صاحبها فينتفع بها، فإذا انتفع بها فله أجره على قدر ما حملها من الطريق.
قال محمد بن رشد: قال في البئر: إنه يكون للمجعول له فيما حفر من البئر إذا انتفع بذلك صاحبها قدر ما عمل مما انتفع به، ولم يبين وجه العمل في ذلك، وفيه تفصيل، وقد مضى بيانه في رسم أخذ يشرب خمرا، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وكذلك قال أيضا في الخشبة: إنه يكون له أجره على قدر ما حملها من الطريق، فأجمل القول في ذلك دون بيان، وقد مضى بيانه في الرسم المذكور، من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة يستأجر بدينار على دابة يبيعها له وله الدينار باع أو لم يبع:

قال أصبغ: سمعت أشهب، وسئل عن الذي يستأجر بدينار على دابة يبيعها له بالإسكندرية، وله الدينار باع أو لم يبع. قال: لا بأس بذلك. قيل له: وإن لم يسم للتسويق والبيع هناك أجلا؟ قال: نعم. قيل له: فما البيع؟ قال: على قدر بيع مثلها. ثم قال:
أرأيت لو أعطاه هاهنا ثوبا يبيعه بخمسة دراهم، فالقيام بالبيع معروف في كل سلعة وفي كل بند، وقال هو معروف.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا صحيح، وهو نحو ما مضى لابن القاسم، في سماع محمد بن خالد، فليس بخلاف لما في المدونة، ولا فيما مضى في رسم العتق، من سماع عيسى، وقد مضى القول على ذلك هناك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة استأجر أجيرا أشهرا في علوفة دواب فماتت قبل الشهر فأراد أن يستعمله في غيره:

ومن كتاب البيع والصرف:
وسئل أشهب عن رجل استأجر أجيرا أشهرا في علوفة دواب، فماتت قبل الشهر، فأراد أن يستعمله في غيره. قال: ليس ذلك له، إما جاءه بمثل تلك الدواب يقوم بعلوفتها، وإلا فلا شيء للمستأجر على الأجير، والإجارة له كلها.
قيل له؛ فإن رضي الأجير أن يتحول إلى عمل آخر غيره؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: أجاز أشهب الإجارة على علوفة دواب بأعيانها، وإن لم يشترط الخلف، ورأى أن الحكم يوجبه، وذلك خلاف مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها، مثل قول سحنون وابن حبيب، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم العتق، من سماع عيسى.
وأما قوله: إنه إن رضي الأجير أن يتحول إلى عمل آخر غيره، فلا بأس به، معناه فيما يشبه العلوفة لا يتباعد. قال ذلك ابن أبي زيد، وهو صحيح على معنى ما في المدونة أن من اكترى دابة إلى موضع، فليس له أن يركبها إلى موضع غيره، وإن كان مثله في الحزونة والسهولة، إلا أن يرضى بذلك الكري، خلاف قول مالك في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم، وخلاف ما في الواضحة من أن من اكترى أجيرا لعمل يسميه، فله أن يستعمله فيه، وفيما يشبهه من الأعمال؛ إلا أن يشترط الأجير ألا يستعمله إلا في العمل الذي سمى بعينه. وأما فيما لا يشبه العلوفة، فلا يجوز وإن رضيا؛ لأنه فسخ دين في دين، وسواء كان قد انتقد، أو لم ينتقد في هذه المسألة؛ لأن الخلف فيها واجب، والكراء بينهما قائم، فيدخله فسخ الدين في الدين، وإن كان لم ينتقد. ولو استأجره شهرين على أن يعمل الشهر الأول في عمل سماه، والشهر الآخر بعده في عمل آخر سماه بعيد منه، جاز على مذهب ابن القاسم إن لم ينتقد، ولم يجز على مذهب ابن الماجشون. والقولان قائمان من المدونة من مسألة: من أكرى راحلة بعينها فركبها بعد شهر، وبالله التوفيق.

.مسألة استأجر أجيرا يخدمه واشترط عليه السفر إن احتاج إليه:

وسئل أشهب عمن استأجر أجيرا يخدمه، واشترط عليه إن احتجت إلى سفر شهرا أو شهرين في السنة سافرت بك. قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: إنما أجاز إذا استأجر الأجير لخدمته أن يشترط عليه أن يسافر به من أجل أنه قد وقت السفر شهرا أو شهرين، وإذا قال شهرا أو شهرين، فالمشترط عليه إنما هو شهران؛ لأن الأجير إنما يدخل على الأكثر الذي يلزمه بالشرط. ولا يضر أن يكون المستأجر بالخيار في أن يسافر به أقل من شهرين، وفي إلا يسافر به أصلا؛ لأن ذلك حق له تركه بعد انعقاد الأجرة على شيء معلوم. والأصل في جواز هذا، وما كان في معناه قول الله عز وجل: {أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص: 27] لأن الأجير هاهنا يقول: قد أجرتك نفسي على أن أسافر معك شهرين، إلا أن تخفف عني السفر أو بعضه، فذلك من عندك تفضل منك علي. واشتراطه عليه السفر به شهرين من السنة دون أن يسميهما يتخرج على قولين؛ فيجوز على مذهب ابن القاسم الذي يجيز أن يشترط عليه السفر في أول السنة، أو بعد مضي بعضها، ولا يجوز على مذهب ابن الماجشون، الذي لا يجيز أن يشترط عليه السفر إلا في أول السنة، أو فيما قرب من أولها، ولا يجوز بعد مضي شهر منها أو أكثر، ولو شرط عليه أن يسافر به إن احتاج إلى السفر، ولم يوقت مقداره، لم يجز عند جميعهم، وهو قوله في المدونة وغيرها: إن ما تباعد من الأعمال لا يجوز أن يستأجره عليها دون بيان، وبالله التوفيق.

.مسألة يقول للرجل أعطني عبدك يعمل لي اليوم وأعطيك عبدي غدا:

وسئل أشهب عن الذي يقول للرجل: أعطني عبدك النجار يعمل لي اليوم، وأعطيك عبدي الخياط يخيط لك غدا. قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة، والقول فيها في أول رسم من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة يجعل جعلا لرجل في طلب عبد له أبق فيأتي به فيستحقه مستحق:

ومن كتاب محض القضاء:
وسئل أشهب عن الذي يجعل جعلا لرجل في طلب عبد له أبق، فيأتي به فيستحقه مستحق، قبل أن يقبض الجعل، وقبل أن يقبض العبد ربه، على من ترى الجعل؟ قال: على الجاعل، وليس على المستحق شيء. قيل له: وكذلك إن استحق بحرية؟ قال: نعم. فقيل له: فإن استحق بحرية كانت من الأصل ألا يرجع به عليه، أو قال السائل على مستحقه من الأصل. قال: لا. قال أصبغ: ولا على أحد ويبطل.
قال محمد بن رشد: في كتاب ابن المواز بإثر هذه المسألة: قال محمد: وأجوز ذلك عندي أن يكون الجعل على الجاعل ثابتا عليه يغرمه، ويكون على مستحقه جعل مثله يغرمه للجاعل، إلا أن يكون أكثر مما غرمه الجاعل، وقد ناظرت فيها من أرضى فقال لي مثله.
قال محمد بن المواز: وهو بين إن شاء الله؛ لأن كل آبق جاء به من تكلف طلبه لم يصل إليه حتى يدفع جعل مثله، ولا نفقة له في ذلك، وإن جاء به من لم يطلبه، فلا جعل له ولا نفقة. وقول ابن المواز: وإن جاء به من لم يطلبه، فلا جعل له، ولا نفقة خلاف ما في المدونة من أنه ليس له إلا نفقته. وقد بين محمد بن المواز وجه ما ذهب إليه من الرجوع على المستحق بجعل مثله، والأظهر ما روى أصبغ عن ابن القاسم أن الجعل على الجاعل؛ لأن المنفعة فيه له من أجل أن ضمان العبد منه، فلو لم يوجد لخسر الثمن الذي أدى فيه، وإذا وجده فأخذه صاحبه المستحق له، رجع على البائع الذي أدى فيه، والمستحق إن لم يجد العبد لا تكون مصيبته منه؛ لأن له أن يجيز البيع، فيأخذ الثمن من البائع.
وهذا الاختلاف إنما هو إذا أخذ المستحق العبد، وأما إن أجاز البيع، وأخذ الثمن، فالجعل على الجاعل قولا واحدا، وروى ابن أبي جعفر الدمياطي، عن ابن القاسم فيمن دفع إليه ثوب يبيعه، بجعل فباعه، ثم استحق أنه لا جعل له. وهذا بيّن على ما قال؛ لأن المستحق إذا أخذ ثوبه انتقض البيع، فوجب رد الجعل، وأما إن أجاز البيع، وأخذ الثمن، فينبغي أن يكون الجعل للمجعول له على الجاعل، ويرجع الجاعل به على المستحق، وقد مضى في رسم الفصاحة، من سماع عيسى، من كتاب جامع البيوع من معنى هذه المسألة ما فيه بيان لهذه، وبالله التوفيق.

.مسألة بعث رجلا إلى المعدن ينفق عليه ويعمل له وما أصاب له ثلثه:

وسمعت أصبغ، وسئل عن رجل بعث رجلا إلى المعدن ينفق عليه، ويعمل له، فما أصاب كان له منه ثلثه أو نصفه، أو جزء مما يتراضيان عليه، وإن لم يصب شيئا ذهبت نفقته باطلا. قال أصبغ: لا يصلح ذلك، وذلك فاسد لا شك فيه، وهو من الغرر، وهو منقوض ما لم يفت بالعمل والخروج، فإن فات فهو مثل ما كانوا يتعاملون به في معدن الزبرجد قديما، مما قد عرفتم، وعرف الناس عندكم كيف كانوا يبعثون، ويخرجون عليه على مثل هذا.
ونزل عندنا في أيامه كثيرا، ونحن حينئذ نتبع أصحابنا ومشايخنا الفقهاء في زمان ابن القاسم وأشهب، وابن وهب كانوا يسألون عنه ويتكلمون فيه مما ينزل، ويختلفون ويختلف فيها القول من الناس، فكان الذي استقر عليه قولنا كقول أكثرهم وأكابرهم أنها أجرة، وهي أجرة فاسدة، يكون المكتسب فيها، والنيل إن فات وعمل، ووجد للباعث الذي عليه النفقة، كمن استأجر أجيرا على أن ما اكتسب في عمله فهو له، فالإصابة له والحرمان عليه، وليس للأجير إلا إجارة مثله في شخوصه، وفي عمله، وإقامته وكثرته. فإن وفرت عليه إجارة مثله على أن مئونته على نفسه حوسب بما أكل وشرب وأنفق. وإن شاءوا قوموا الإجارة على أن طعامه وشرابه على المستأجر، فكان له في القضاء أقل من القيمة الأولى، ودخل هذا في هذا المعنى، فعلى أي الوجهين قومت به، فهو سواء، وهو صواب، وله إجارة مثله على كل حال أصاب أو لم يصب؛ لأنه لو أصاب الكثير كان للأول الباعث، وكذلك إذا لم يصب إلا القليل، أو لم يصب شيئا، فعليه مثل الذي له، ولهذا إجارته كاملة على قدر عمله. فإجارة مثله ليس بمثل ما سمى له، إن كان سمى له تسمية مع ما يصيب؛ لأن الإجارة فسدت بالجزء الذي استثنى مما يصيب، فلا يدري أيصيب أم لا؟ فصارت مخاطرة؛ كالذي يستأجر في الزرع، وعمله بجزء مما يخرج، وصار حراما فاسدا، وكذلك هذا. ولو كانت الإجارة من نفقته وطعامه وشرابه فقط أو تسمية مسماة من العين دونها أو معها، وليس له في الإصابة شيء كان حلالا، وكان جائزا، وكان مما يبين أن الكسب كله للباعث، وكان بمنزلة الأجير يستأجر بقدر له، ويعمل بشيء مسمى فذلك جائز، وبمنزلة الرجل يستأجر الأجير يوما على أن يصيد له صيد البحر أو البر بشيء مسمى، فذلك له جائز، ما أصاب فهو له، وما لم يصب ليس عليه فيه غرم، وليس عليه إلا اجتهاده؛ لأنه إنما استأجره على أن يعمل ما يعمل الصائد من نصب، وإلقاء شبكة، أو نصب حبالة أو غيره مما يعرف، فهو كالصانع فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: أما إذا استأجره على أن يعمل في المعدن بجزء مما يخرج منه على أن له نفقته، فالمكروه فيها بين، والفساد فيها ظاهر؛ لأن الغرر فيها موجود في جهة كل واحد منهما؛ لأن الأجير يعمل على شيء مجهول، لا يدري ما هو، ولا ما يحصل له فيه، والمستأجر ينفق على أن يأخذ في نفقته جزءا مما يخرج من المعدن، فكأنه باع نفقته بذلك، وهو غرر بين. فقول أصبغ: إنها إجارة فاسدة، يكون النيل للمستأجر، ويكون للأجير أجرة مثله إن فاتت الإجارة بالعمل صحيح، والاختلاف الذي ذكر أنه وقع فيها بعيد. وإنما الاختلاف المعلوم في ذلك إذا استأجره على العمل فيه بجزء مما يخرج منه على أن نفقته على نفسه، فقيل- وهو المشهور-: إنها إجارة فاسدة؛ لأن الأجير يعمل فيها على شيء مجهول لا يعلم قدره، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من استأجر أجيرا فليؤاجره بأجر معلوم إلى أجل معلوم» وقيل: إنها إجارة جائزة؛ لأن ما لا يجوز بيعه يجوز الاستئجار عليه بالجزء منه قياسا على المساقاة والقراض؛ لأن الثمرة لما لم يجز بيعها قبل بدو صلاحها، جازت فيها المساقاة، ولأن العين لما لم يجز فيه الكراء جاز فيه القراض، وهو قول ابن القاسم في أصل الأسدية، قال فيها: إن ما ظهر في أرض الصلح من المعادن، إن لهم أن يمنعوها الناس، ولهم أن يأذنوا لهم في عملها، ويكون لهم ما يصالحون الناس عليه من الخمس أو غير ذلك. وكذلك قال في كتاب ابن المواز: إن لهم أن يعاملوا الناس فيها بالثلث والربع، وأنكر محمد معاملتهم فيها بالثلث والربع، ووقف عنه، وبالله التوفيق.

.مسألة استأجر حصادين على أن يحصدوا له زرعا فذهبوا فحصدوا زرعا لغيره:

من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من عبد الرحمن بن القاسم وسئل ابن القاسم عن رجل استأجر حصادين على أن يحصدوا له زرعا، فذهبوا فحصدوا زرعا لغيره، وهو قريب من زرعه. قال: إن كان الخطأ جاء من قِبل الأجراء، فإنه ينظر إلى صاحب ذلك الزرع، فإن كان له عبيد أو أجراء، ويريد أنه لا يحتاج إلى الإجارة في حصاد زرعه، لم يكن عليه شيء وبطل عملهم، وإن كان لا أجراء له ولا عبيد ولا يجد بدا من أن يستأجر على حصاد زرعه كان عليه قيمة ما حصدوا. وإن كان الخطأ جاء من قبل صاحب الزرع قال لهم: احصدوا لي هذا الزرع، وهو يظن أنه زرعه، وكان صاحب الزرع لا أجراء له ولا عبيد، ولا يجد بدا من أن يستأجر على حصاد زرعه، فإن عليه أن يدفع للذي استأجر الحصادين قيمة عمل الأجراء، ويكون للأجراء على الذي استأجرهم أجرتهم التي استأجرهم عليها.
قال محمد بن رشد: مثل هذا حكى ابن حبيب في الواضحة سواء. وقد قيل: إنهم لا شيء لهم عليه، وإن لم يكن له عبيد ولا أجراء؛ إذ لم يستأجرهم، وهو ظاهر قول ابن القاسم في أول مسألة من سماع يحيى، من كتاب البضائع والوكالات والخصام. وقال محمد بن جعفر: إنه إن كان له عبيد وأجراء، فله أن يستعملهم في مثل ما عملوا له، وهو قول له وجه، وبالله التوفيق.

.مسألة استأجر أجراء يحرثون له أرضا فذهبوا يحرثون أرضا لغيره:

وسئل ابن القاسم عن رجل استأجر أجراء يحرثون له أرضا، فذهب الأجراء يحرثون أرضا إلى جنب أرضه وهم لا يعلمون، وإنما جاء الخطأ من قبل الأجراء، أترى على صاحب الأرض الذي حرثت له أرضه أجرة ما عملوا؟ قال: إن زرعها وانتفع بذلك الحرث كان ذلك عليه، وإن لم ينتفع به، وقال: لم أرد أن أزرعها، وإنما أردت أن أكريها، فلا أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: قال في هذه المسألة: إنه إن زرع الأرض وانتفع بحرثها كان عليه الأجرة للذي أخطأ في حرثها. ومعنى ذلك إذا لم يكن له بقر وعبيد وأجراء على ما قاله في المسألة التي قبلها، وقد مضى القول فيها. ومن الناس من حمل هذه المسألة على ظاهرها، فقال في المسألة ثلاثة أقوال؛ إيجاب الأجرة على كل حال، وسقوطها على كل حال، والفرق بين أن يكون له عبيد وأجراء، أو لا يكون، وبالله التوفيق.

.مسألة استأجر بنّاء يبني له دارا فيذهب البنّاء فيجد البقعة قد استحقت:

وسئل ابن القاسم عن رجل استأجر بنّاء يبني له دارا بالريف بموضع معروف على صفة معروفة، فيذهب البنّاء إلى الريف، فيجد البقعة قد استحقت فيرجع. قال: أرى له إجارته ذاهبا، ولا أرى له شيئا في رجوعه.
قال محمد بن رشد: وكذلك من استأجر أجيرا أياما على عمل بعينه في غير الموضع الذي استأجره فيه، فله الأجرة في ذهابه؛ لأنه ذهب إلى عمله، ولا أجرة له في انصرافه؛ لأنه انصرف إلى غير عمله، حكى ذلك ابن حبيب عن ابن الماجشون، وحكى عن أصبغ: أنه لا شيء له إلا منذ يبلغ الموضع الذي فيه العمل. قال الفضل: ولو انصرف لمحاسبة بينه وبين المستأجر؛ لكانت له الأجرة في منصرفه، وهذا إذا لم يكن عند الناس في ذلك عرف، فإن كان فيه عندهم عرف وجب الحكم به، وبالله التوفيق.
تم كتاب الجعل والإجارة، والحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه وعبده، وعلى آله وصحبه وسلم.
يتلوه إن شاء الله كتاب كراء الدور والأرضين.

.كتاب كراء الدور والأرضين:

.مسألة تكارى أرضا ثلاث سنين ليزرعها فزرع سنة أو سنتين:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
كتاب كراء الدور والأرضين من سماع ابن القاسم من مالك رواية سحنون من كتاب القبلة: قال سحنون: أخبرني ابن القاسم، قال: سمعت مالكا يقول: من تكارى أرضا ثلاث سنين يزرعها فزرع سنة أو سنتين ثم استقال صاحبه فأقاله وفيها زرع لم يبلغ صلاحه، فأراد صاحب الأرض أن يقلع زرعه، قال: ليس ذلك له، ولكن يقر زرعه ويسقي من الماء ما يصلحه حتى يدرك ويحسب ذلك عليه من حساب الثلاث سنين وكرائها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه إذا استقال صاحبه فيما بقي من أمد اكترائه وفي الأرض زرع قد زرعه أن الإقالة إنما تقع على ما بقي من المدة بعد خروج الزرع الذي في الأرض؛ لأن الأرض قد فاتت في تلك المدة بالزرع الذي زرعه فيها.
ألا ترى أنه لو اكترى منه الأرض مسانهة أو مشاهرة كل سنة بكذا، أو كل شهر بكذا فزرع فيها لكان الكراء قد لزمهما جميعا إلى خروج الزرع، ليس لرب الأرض أن يقول للمكتري اقلع زرعك واخرج، ولا للمكتري أن يقلع زرعه ويخرج إذا أبى من ذلك رب الأرض، فكذلك إذا تقايلا فيما بقي من المدة وفي الأرض زرع، ليس لرب الأرض أن يقول للمكتري اقلع زرعك واخرج لأنك قد استقلت في الأرض، ولا للمكتري أيضا أن يقلع زرعه ويخرج إذا أبى من ذلك رب الأرض.
فإن وقعت الإقالة بينهما على ذلك بإفصاح جازت ولزمهما إلا أن يكون الزرع قد قارب أن يأخذ الحب فيمنعان من ذلك لمنفعة العامة، كما يمنع من بيع الفتى من البقر للذبح وما أشبه ذلك.
وإن اختلفا ولم يبلغ الزرع الحد الذي يمنعان من قلعه فقال أحدهما: إنما وقعت الإقالة بيننا من وقت الإقالة على قلع الزرع بإفصاح، وأنكر ذلك الآخر وادعى الإبهام، أو أن الإقالة إنما وقعت بينهما من بعد خروج الزرع، فالقول قول المنكر منهما مع يمينه.
وهذا إذا لم ينقد، وأما إن كان قد نقد فلا تجوز الإقالة في ذلك إلا على اختلاف سيأتي القول فيه في رسم الشريكين من هذا السماع، ورسم حمل صبيا من سماع عيسى.
وقوله: ويحسب ذلك عليه من حساب الثلاث سنين وكرائها، معناه: من حسابها على القيمة لا على عدد الشهور.
وهذا إذا كانت الأرض على السقي يعمل فيها الشتاء والصيف؛ لأن الكراء في ذلك مختلف. وكذلك قال في المدونة.
وأما إن كانت الأرض للزرع فانقضاء السنة رفع الزرع منها.
فإن تكاراها ثلاث سنين فاستقاله بغد أن زرع في أول سنة فالإقالة تقع في السنتين الباقيتين، وإن استقاله بعد أن زرع في السنة الثانية فالإقالة إنما تقع في السنة الثالثة.
وقال في المدونة: إن الكراء لا يقسم فيها على السواء وإنما يقسم على قدر النفاق والتشاح، وذلك بين إن كان الكراء نقدا أو مؤخرا كله؛ لأن ما يتعجل منفعته من الأرض أكثر كراء مما يتأخر منه.
وأما إن لم يكن الكراء نقدا ولا مؤخرا وكان الحكم فيه أن ينقده كراء كل سنة عند تمام الزرع فيها، فقال في كتاب ابن المواز: إنه ينقده في كل سنة ثلث الكراء إن كان الكراء لثلاثة أعوام خلاف ظاهر ما في المدونة أن الكراء يفض على قدر النفاق والتشاح، وهو الأظهر؛ لأن السنة الأولى تعجلت منفعتها وتعجل نقدها، وكل سنة بعدها تتأخر منفعتها بقدر تأخر النقد فيها، فوجب أن يقسم الكراء عليها بالسواء إذا حدث ما يوجب سقوطه من إقالة أو غرق أو عطش وما أشبه ذلك.
ووجه ما في المدونة أنه قد يكون ما تعجل عقده وقبضه ونقده أنفق مما تعجل عقده وتأخر قبضه ونقده، وهو صحيح إن كان ذلك عند الناس كذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة كراء الأرض من أرض الجزية والزيادة فيها:

ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها:
وسئل: عن الرجل يتكارى الأرض من أرض الجزية ويزداد في أرضها أشياء يكتمها، أتحب أن يشترى من قمحه؟ قال: إني لأكره ذلك وما يعجبني، وأكره هذه القطائع التي في أرض مصر التي أقطعها من أقطعها.
ولم ير أن يقطع لأحد فيها ولا أن يشترى من قمحها.
قال محمد بن رشد: أما أخذ المسلم من الذمي أرض الجزية بما عليها من الخراج يكتبه على نفسه فلا ينبغي ذلك ولا يحل، وقد سئل ابن عمر عن ذلك فقال: لا يحل لمسلم أن يكتب على نفسه الذلة والصغار، وروى عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: «من خلع رقبة ذمي فجعلها في عنقه فقد استقال هجرته وولى الإسلام ظهره» وأما اكتراؤه إياها منه كراء صحيحا دون أن يأخذها بما عليها من الجزية فكره ذلك مالك لما فيه من معنى ذلك، ولقد قال: لا أحب لأحد أن يزرعها بعارية وأرى ذلك من باب حماية الذرائع، وأما كراهيته لشراء قمح الذي يكتري أرض الجزية ويزداد فيها ما ليس منها، فالمعنى فيه بين، وذلك أن الذي يكتم من الأرض ويزرعه مع أرض الجزية الذي اكتراه على أنه منها وهو يعلم أنه ليس منها في حكم المغصوب من الأرض.
وقد قال جماعة من أهل العلم أن من غصب أرضا فزرعها لنفسه بطعامه أن الزرع لصاحب الأرض؛ لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ليس لعرق ظالم حق» فمن ذهب إلى هذا لم يحل عنده شراء ذلك الطعام منه؛ لأنه في حكم العين المغصوب، ومن لم ير للمغصوب منه الأرض إلا كراء أرضه يكره شراء ذلك الطعام منه حتى يصلح شأنه مع رب الأرض لمخالطة الحرام ماله ومراعاة لقول المخالف وهو قول مالك.
وأما كراهيته الإقطاع في أرض مصر فالمعنى في ذلك أنها افتتحت عنده عنوة، ومن مذهبه أنه لا يجوز الإقطاع في أرض العنوة، وهو قول ابن حبيب في باب زكاة المعادن من كتاب الزكاة، وإنما يجوز للإمام أن يقطع على مذهب مالك فيما جلى عنه أهله بغير قتال، وفي الفيافي البعيدة من العمران وحده، ما لم تنله أخفاف الإبل للمرعى.
وعند أبي حنيفة أن يصيح صائح في طرف العمران فلا يسمعه، وأما ما قرب من العمران من الموات، فقيل: إنه لمن أحياه، وقيل: ليس لأحد أن يحييه إلا بإذن الإمام، وهو قول مالك في المدونة، واختلف إن أحياه بغير إذنه على هذا القول، فقيل: يكون الإمام مخيرا بين أن يمضيه له أو يعطيه قيمته منقوضا ويخرجه منه، وقيل: إن له أن يمضي له مراعاة للاختلاف فيه وهو ظاهر المدونة، وقيل: إنه بين أهل القرى هم أحق به، وقد قيل في مصر: إنها افتتحت صلحا.
حكى ذلك الليث عن يزيد بن أبي حبيب، وعبيد الله بن أبي جعفر، يعني أن الصلح وقع على أن تكون الأرض للمسلمين كما فعل النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ ببعض أرض أهل الحجاز، لا على أنها تركت لأهلها، فعلى هذا يجوز الإقطاع فيها.
وقد اختلف في سبب دخول الليث فيها.
فقيل بالاشتراء، وقيل بالاكتراء، وقيل بالإقطاع، وإنكار الليث أن تكون أخذت عنوة يدل على أن مذهبه في أرض العنوة أن تخمس وتقسم، وقيل: إنها افتتحت صلحا، ثم نقضوا فأخذها عمرو بن العاص عنوة.
ورأيت للخمي أن إقطاع أرض العنوة جائز على مذهب مالك وذلك خلاف هذه الرواية وبالله التوفيق.